قال: [ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر قوله تعالى: ((لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ))[النساء:172]، وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه] يعني: أن الملائكة هنا أفضل من المسيح عليه السلام، كيف ذلك؟! قالوا: [لأنه لا يجوز أن يقال: لن يستنكف الوزير أن يكون خادماً للملك ولا الشرطي أو الحارس وإنما يقال: لن يستنكف الشرطي أن يكون خادماً للملك ولا الوزير] يستنكف: يستكبر، ويتمنع ويترفع، والمعنى: ولا من هو أفضل منه يستنكف عن ذلك، فضلاً عن أن يستنكف هو، وهذا واضح، قالوا: [ففي مثل هذا التركيب يرتقى من الأدنى إلى الأعلى] والكلام من ناحية اللغة نسلم بصحته يقول: [فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام، ثبت في حق غيره؛ إذ لم يقل أحد: إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض] كان القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله ممن خاض في هذه المسألة ونقل عنه شيخ الإسلام أنه كان يقول: إن هذا الكلام ساذج، والعطف لا يقتضي تفضيل المعطوف على المعطوف عليه، لكن في الحقيقة فإن كلام القاضي أبي يعلى غير ظاهر، بل إن هذا أسلوب بليغ، والعطف هنا بالفعل فيه ترقٍ من الأدنى إلى الأعلى.
ونحن نستبعد كلام القاضي بأن الكلام على العطف ساذج.
فمعنى كلامهم أنه إذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام، فإذاً هم أفضل من جميع الأنبياء، ومن جميع الصالحين، إذ لم يقل أحد: إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض، فهم إذاً أفضل من جميع بني آدم، هذا وجه كلامهم.
قال: [أجاب الآخرون بأجوبة، أحسنُها، أو من أحسنها: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه] أي: فلا نزاع أن هذه الصفات في حق الملائكة المقربين أوفر وأكثر منها في عيسى عليه السلام، [وفي العبودية خضوع وذل وانقياد] فالعبودية هي: الخضوع، والذل، والانقياد، ووقوع الانقياد والخضوع من الأدنى أقرب، وهو من الأعلى قوة وضخامة أبعد، فلهذا لن يستنكف المسيح عليه السلام أن يكون عبداً لله، ولا من هو أقوى منه وأعظم منه في الخلقة، ولديه دواعي الاستكبار المشار إليها، وهم أقوى وأعظم من المسيح عليه السلام، وهو معنى قولهم: [وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها، ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً] أي: الملائكة [ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه].
ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أيضاً بعض الصفات، وهي كون عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه، ويحيي الموتى بإذن الله، وهذه من عظيم ما اختص الله تعالى به عيسى عليه السلام، ويقول شيخ الإسلام: "وعيسى عليه السلام ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، واطلاع الملائكة على ما يدخر وما يؤكل أسهل أيضاً، ولا شك أن الله تعالى أعطاهم القدرة على الاطلاع أكثر، وعيسى عليه السلام خلق من أم بلا أب، والملائكة خلقوا من غير أم ولا أب، إذاً فمن يقول: إن الله قد اختص عيسى عليه السلام بهذه الصفات وفضله على الملائكة، فيقال له: فالملائكة فيها أكمل وأعلى درجة، ومن هنا فالكلام صحيح، والتعبير صحيح عما يفيده العطف من الترقي صحيح، ووجه تخصيص عيسى عليه السلام بالذكر أن كثيراً من الناس حتى في وقتنا هذا يدعون أنه إله، ويعبدونه من دون الله؛ وذلك أنهم حين رأوا فيه ما اختص به من الصفات قالوا: لا يحيي الموتى إلا من كان إلهاً، وكذلك من كان يعلم الغيب، ويخبر عما في البيوت، فكأنه تعالى يقول: إن هذا المتصف بهذه الصفات، لن يستنكف عن عبادة الله سبحانه وتعالى ولا من هو أعظم منه خلقة وقوة، فلا يحق لأحد أبداً أن يفعل ذلك، وكل من عرف الله سبحانه وتعالى فلن يستنكف عن عبادته مهما كان قربه من الله، ومهما كانت درجته عالية، ومهما أعطي وميز به من الصفات والخلال.